الاثنين، 23 مارس 2015

قطرة من حياتي (4) - أمي وزيرة للتخطيط

أمي ... وزيرة للتخطيط
----------------
لم يكن دخل أبي (رحمه الله رحمة واسعة) يكفي مصاريف البيت ... 
وكان يعطي أمي الراتب ... بشرط أن تتوفر له احتياجاته .. وعليها هي أن تدبر كل شؤون البيت .. من الإدارة اليومية .. وهذه لها حكاية مستقلة .. إلي التخطيط العام .. وهذا كان أقصى مدى للتخطيط المادي .. أما التخطيط للمستقبل .. فكانت ترى أن أحسن استثمار هو فينا نحن .. واعتبرت ذلك هو الاستثمار الحقيقي للمستقبل .. باعت من أجله كل ما كانت تملك .. من أرض وذهب وغيره .. وتقول لمن يغريها بالدنيا .. أنا "دهبي أولادي" .. ولم يكن ذلك زهدا في الذهب .. فهذا ليس من شيم النساء .. 
فكانت تربي الطيور فوق السطح .. لتمدها بالبيض .. واللحم
وما زلت أذكر بعد الفجر مباشرة .. وأنا أسمع وقع خطواتها على درجات سلم خشبي .. وهي تصعد إلى السطح لتجمع البيت الطازج .. من الدجاج البلدي الغير مهجن .. وتحلب الماعز .. وتعد الإفطار .. وتضع فوق كوب الحليب ملعقة من السمن البلدي .. الذي اشترته من الريف أثناء رحلتها السنوية إلى طنطا .. ليكون مخزون استراتيجي للبيت لمدة عام ..
كانت تصلي الفجر .. قبل أن تتنقل بين نعم الله .. التي زرعتها وربتها في البيت .. وأفاضها الله سبحانه وتعالي على يديها .. بركة لسعيها الدؤوب أمام تحديات الحياة اليومية.
كانت تعد الفطار .. ولا تأكل منه .. بل كانت تقول لنا .. (إللي في بطنكم في بطني) .. وكان هذا ديدنها مع الطعام .. غالباً
لم تشعرنا بجوع .. أو حاجة .. حولت البيت إلى مملكة صغيرة .. تدير شئونها كلها .. 
صحيح أن البيت كان في الإسكندرية .. عروس البحر .. حيث تستقبل كل صباح .. ضوء الشمس .. وخرير البحر يطرب أذنيها .. وهي منتشية في حالة من العشق الرباني لسيمفونية تعزفها المخلوقات المختلفة .. 
فآذان الديكة .. يتناغم مع آذان المؤذن .. وصوت الدجاج وهو يستقبل يومه الجديد .. بهداياه من البيض الأبيض مثل ضوء الشمس .. وصوت حليب الماعز الطازج .. وهو ينساب من أصابع أمي إلى الإناء .. آية من آيات الله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ) النحل (66) 
لقد كانت سيمفونية رائعة حقاً .. فيها العرق .. والبركة .. والرضا والإحساس بنعم الله .. وآيات الشكر تترى من فمها .. مع كل نعمة تحصل عليها
كانت هذه هي أذكار الصباح لها .. هل كان ذلك من مبدأ (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ (13) .. ربما .. لا أدري
أذكار تحولت .. على شفاه الكسالي من المسلمين .. إلي كلمات ميته .. لا علاقة لها بالحياة .. وصناعتها .. تحولت من أذكار متوكلين .. إلي أذكار متواكلين
أذكار أمي صنعت منها بفضل الله وحدة .. إكتفاء ذاتي .. رغم ضعف الميزانية أو الدخل ... لكن عظم السعي والحب كانا جناحا المستقبل
أما أذكار اليوم .. أنتجت شعوب غارقة في الديون .. وأسيرة لحاجاتها من أعدائها ..
لم يجد التجار فرصة .. لغزو أمي اقتصاديا .. ولا حتى فكرياً (وهذه لها قصة أخرى بإذن الله) .. فقد أنتجت غذائها وغذاء الأسرة كلها ..
بينما وجد تجار الدول والشعوب ضالتهم .. في عالم المسلمين .. فاستعمروهم بكل صور الاستعمار البغيضة .. وعندما قال الدكتور محمد مرسي (رحمه الله) .. ما عاشته أمي .. وهو أن تصنع مصر دوائها وغذائها وسلاحها .. ليعيد .. عزة أمي .. لمصر .. وقعت الكلمات في نفسي .. وأحسست بها .. ودعوت له بالتوفيق .. واضعاً يدي على قلبي .. من النظام العالمي الظالم .. الذي يمنع الشعوب من امتلاك إرادتها
وتحققت مخاوفي .. ولم تنجح مصر في أن تستعيد عزتها .. ونجحت أمي .. لأنها لم تكن جزءاً من هذا النظام العالمي بأدواته وأذنابه
نجحت والبيت ليس به ثلاجة لتحفظ الطعام ولا بوتاجاز لطهوة ولا كهرباء لفترة طويلة ..
بل كان فيه إرادة وصبر فلاحة بسيطة تعيش في الإسكندرية .. جسداً .. وفي القرية المصرية .. عقلاً وروحاً وثقافة وجهداً
نقلت الحقل وثقافتة .. لمدينة الشواطئ والملاهي والسينما والمسارح .. الاسكندرية
في الصيف يسافر المصريون إلى شواطئها للمتعة .. 
وتسافر إمي إلي الريف لتشتري المخزون الاستراتيجي من خيراته .. وخصوصاً .. السمن والجبن القريش والزبدة وغير ذلك
رحمك الله يا أمي .. رحمة واسعة .. فقد أدرتي دولتك .. بلا شهادات .. لأحصل أنا على أعلى الشهادات .. الدكتوراه في العلوم
وعندما حصلت عليها .. وكنت في بريطانيا .. قال لي المشرف .. من هو أكثر شخص سيفرح عندما يعلم بخبر حصولك على الدكتوراه الآن ..
وبلا تردد قلت له أمي .. ولكن لم يكن عندها تليفون .. فلم أتصل بها عبر الأثير .. واتصلت بها عبر القلوب والأرواح .. فكانت الفرحة عابرة للمكان والزمان

0 التعليقات:

إرسال تعليق