الاثنين، 23 مارس 2015

قطرة من حياتي (7) - إدمان القراءة في أسرة أمية

إدمان القراءة في أسرة أمية 
----------------------------
قالت أم ميشيل توماس الأمريكي، مدرس اللغة الإنجليزية، له وهو صغير نصيحة غالية: يا بني إن أي ثروة ستجمعها يمكن أن تفقدها، إلا ثروة واحدة، وأشارت إلى رأسها، أي المعرفة التي تجمعها في عقلك.
ذكر ميشيل توماس ذلك لمؤلفا كتاب "التعلم في المستقبل" وايت وودسمول ومارلين وودسمول، عندما كانا ينمذجانه، ليكتشفا الاستراتيجية التي أبدعها، والتي تمكن من خلالها من تعليم اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها في خمسة أيام فقط، هكذا يزعمان في كتابهما الذي ذكرته، وقد استغرقا أكثر من عامين في ملاحظة ميشيل حتى يستخرجا هذه الاستراتيجية، التي اكتشفها بعد ١٥ سنة تدريس بالطريقة التقليدية، ثم بدأ يعلم بطريقته الجديدة ١٥ سنة أخرى قبل وفاته.
استوعب ميشيل نصيحة أمه بأن أفضل استثمار هو في المعرفة.
------------
قررت وأنا صغير أن أشتري جريدة لأقرأها في البيت، وكنت فرحاً جداً بها، وعندما رآها والدي، أخذها مني وأعطاني علقة، لأنه رآها مضيعة للمال، الشحيح أصلاً في شرايين البيت.
والحمدلله أن هذه العلقة لم تجعلني أكره القراءة، بل أحببتها أكثر، فكنت أستعير الكتب من قصر ثقافة الحرية بالاسكندرية، وأشتري بعضها مستعمل، من مكتبة قديمة جداً بشارع العطارين بالأسكندرية، كانت الكتب صفراء، يعلوها التراب، كأنما أكل عليها الدهر وشرب، وكذلك كان صاحب المكتبة العجوز، وبدأت رويداً رويداً، ولادة مكتبتي الخاصة الصغيرة، ولم تكن سوى ثلاثة أرفف معلقة على الحائط، فلم يكن هناك أي مساحة إضافية في الغرفة الواحدة التي ننام ونأكل ونجلس ونذاكر فيها (وللمذاكرة حكاية أخرى)، كانت المكتبة دخيلة على الأسرة كلها.
كان الدافع للقراءة ذاتياً، في أسرة مازالت تعاني من تلبية الحاجات الفسيولوجية الأساسية لضرورات الحياة، كيف بدأت في البحث عن تحقيق ذاتي، أو بمعنى آخر سيكولوجي، كيف بدأت أعيش في مستويات أعلى لحاجاتي من المستوى الأول عند ابراهام ماسلو، صاحب هرم الحاجات الإنسانية المعروف، وهل صحيح أن الإنسان لا يرتقي إلي مستوى أعلى إلا بعد إشباع المستوى الأدني؟، صحيح أن الأسرة كانت فقيرة، لكن أمي لم تشعرني بالحاجة، وكان الحي الذي نعيش فيه من نفس المستوى، فكنت أرى الأمور عادية، حتى بعد هذا الكلام، يظل سؤال المستويات والارتقاء من مستوي أدنى لمستوى أعلى محل تأمل، ألم يخرج من البيئات الفقيرة علماء وعظماء، وكذلك خرج من البيئات المترفة فاشلون ومجرمون وهمل، أنا تعاملت مع طلاب من المجتمعات الفقيرة وطلاب من المجتمعات المترفة، أعترف أن الدافع للتعلم يكون أقوى عند وجود التحدي، المشكلة في المجتمع المترف عندما يغيب عنه التحدي، وتسود ثقافة السهولة والمتعة، أنا أؤمن أن البيئة هي أضعف مؤثر في عملية التغيير، وهذا رأيي.
----------------
ملكت علي القراءة حياتي، كنت أستعير كتب الروايات والشعر وأدب الرحلات وغيرها من قصر الثقافة، وبدأت أتعرف على الروائيين المصريين الكبار ورواياتهم التي تحول الكثير منها إلى أفلام مصرية، لنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وأنيس منصور، وعلي أحمد باكثير، ومحمود تيمور، وغيرهما الكثير والكثير.
كنت أحياناً أجلس لأقرأ رواية طويلة (مثل رد قلبي) فتأخذني الأحداث فلا أقوم إلا وقد انتهيت من قراءتها بالكامل، وبالتالي تعلمت الصبر على القراءة وصارت إدمان.
وعندما كانت ترى أمي أنني أصرف معظم مصروفي على الكتب، كانت تقول لي، لما تتجوز إدفع مهر عروستك كتب، وكنت أضحك.
-----------------
وبعد سنوات كثيرة، ذهبت مع إبني الأول عبد الرحمن وكان صغيراً، لشراء بعض الكتب من مكتبة الأهرام بمحطة الرمل، وعندما عرف البائع أنه إبني، قال له: إن شاء الله تكون بتحب القراءة زى أبوك، أبوك راجل عظيم، لست أدري من أين جاء بالعظمة، هل هو مثل أم ميشيل توماس في تقديرها الحقيقي للثروة، وأنها ثروة العقل، وأنها هي مقياس العظمة.
----------------
بعد أن حصلت على أعلى الشهادات وتزوجت وأصبح لي ثلاث أولاد، تمنيت أن تكون القراءة هواية عندهم، لكني لم أفرضها بل كنت أصنع لها القنوات والفرص، وبدأ الأول في قراءة قصص نبيل فاروق (رجل المستقبل والمستحيل، وهي قصص مغامرات)، وهو نفس العمر الذي كنت أقرأ فيه قصص أرسين لوبين وشرلوك هولمز، وهي قصص مغامرات أيضاً، وعندما كانا في مدينة الاسكندرية، قالت لي زوجتي أن إبني الأكبر يريد شراء قصص، أسعدني ذلك جداً، وقلت لها مستعد أدفع أي مبلغ ليشتري ما يشاء من القصص، فالقراءة أهم من الأكل، لم أهتم بماذاً يقرأ، كان كل همي أن يدمن القراءة، وطمأنني مقال نشره أنيس منصور، في ذلك الوقت، يتحدث فيه عن القراءة، وأنها مراحل، في الأول يقرأ الإنسان أي شئ، ثم يحدد بعد ذلك ما يحب أكثر وتبدأ قراءة العلوم والمعارف المختلفة، وذكر في المقالة، أنه حصل على شهادة من مدرسة المنصورة الثانوية، بأنه قرأ جميع الكتب الموجودة بمكتبة المدرسة، لذلك هو الكاتب الكبير أنيس منصور.
أتذكر ذلك بأسى كلما نظرت إلي عدد الأيادي المرفوعة من طلابي في الجامعة بعد أن أسألهم: مين فيكم بيحب القراءة؟، فأجد عدد الأيدي صفر (زيرو)، أستطيع أن أقول بكل ثقة أن عدد من يدمن القراءة في معاهد العلم لا يتعدى واحد في المائة، وهذه كارثة، في أمة كانت أول كلمة نزل بها الوحي هي "إقرأ"، فانصرفنا وانشغلنا بالنصف الأسفل من الجسم، وأهملنا النصف الأعلى (الرأس أو العقل).
---------------
عندما كان أحد أبنائي في المرحلة المتوسطة (على ما أذكر)، طلب منهم مدرس التعبير، أن يكتب كل واحد في الموضوع الذي يعجبه ويختاره هو، فكتب موضوع بعنوان "المجد الضائع في الأندلس"، عندما قرأته، وقفت مشدوها لجمال العبارات وروعتها، وقررت أن أرسله لإحدى المجلات لعلها تنشرة، وتكون مفاجئة له، وفعلاً نشرته، ورأى إسمه وهو صغير داخل المجلة،وقررت أن آعطيه مبلغاً من المال هدية، ومبلغ آخر أشترى أنا له به قصص من اختياري، كنت أريد أن يبدأ في قراءة قصص في الأدب الإسلامي، ولم أرد فرضها عليه، لأن الفرض لا يحقق سوى الفشل، قبل عرضي واشتريت له بعض قصص نجيب الكيلاني، وأهديتها له، قرأها وأعجب بها، ثم قرأ كل ما كتب نجيب الكيلاني بعد ذلك.
---------------
كان تركيزي على الإبن الأول، لأنه القدوة التي سيراها اخوته أمامهم، وسيكون أثره فيهم أكثر مني، وقد كان، فكنت تراهم أحيانا، يجلسون على مائدة الطعام وفي يد كل منهم قصة يتصفحها، ومازال حتي الآن بعد ٢٨ سنة، هناك مجموعة من القصص والمجلات موجودة بمكتبة بجوار السفرة، وبها القصص والمجلات التي يتصفحونها أثناء الأكل، إنتشر إدمان القراءة، لكنه تنوع حسب شخصية كل واحد.
---------------
لكن حدث مشكلة، يواجهها كل من يقيم الناس بقدر علمهم وثقافتهم وقيمهم ، في مجتمعات لا تقرأ، والأدهى أنها تقيم الناس بمالهم وجاههم وسلطانهم.
---------------
في القطرة القادمة، سأتحدث بإذن الله، عن تربيتي من الكتب في مواجهة الحياة، لقاء أشبه بأمواج البحر العاتية.....
----------------------------
أمين رمضان 8March2015

0 التعليقات:

إرسال تعليق